فعلها رئيس حزب "الكتائب" السابق أمين الجميل، وأخرج إلى العلن ما يقوله همسًا العديد من قياديّي ما كان يُعرَف بقوى الرابع عشر من آذار. فبعد زيارته البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، قال الجميل أنّ بداية الخلاص لن تكون إلا بإعادة تجميع ما وصفه بـ"الفريق السيادي"، متسائلاً: "ألم يحن الأوان لإعادة جمع هذا الفريق مجدّداً تحت أيّ تسمية لإعادة التوازن في وجه الفريق الذي يتناقض مع مفهومنا للسيادة؟"
وسواء كان الأوان قد حان أم لا، وفق منطق الجميل، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً من ذلك هو، هل من إمكانيةٍ أصلاً لإعادة إحياء هذا الفريق؟ وأيّ نقاطٍ مشتركة لا تزال تجمع القوى التي كانت تشكّله سابقاً حتى تجتمع من جديد؟
العنوان في الرئاسة
منذ بدء ظاهرة تفكّك قوى الرابع عشر من آذار، وقياديّوها يعاندون بشكلٍ مبالَغٍ فيه في نكران هذا الواقع المُرّ، حيث كانوا يصرّون عند كلّ مناسبة على تكرار معزوفة أنّ هذه القوى متماسكة، وأنّ التحالف فيما بينها متينٌ، وإن تمايز هذا عن ذاك، وتفرّد ذلك وغرّد خارج السرب.
وعلى الرغم من أنّ الابتكارات والبِدَع التي لجأ إليها أركان هذا الفريق لتعويض عجزه عن مجرّد التقاط صورة جامعة لقياداته لم تنفع، وآخرها تأسيس ما سُمّي بالمجلس الوطني لقوى 14 آذار، فإنّ مجرّد قراءة موضوعية لواقع الحال تُظهِر التباين الشديد بين هذه القوى تقريباً على كلّ شيء، ومن دون مبالغة.
ولعلّ الانتخابات الرئاسية تشكّل عنوان الخلاف بين مكوّنات هذا الفريق المختلفة، والتي لم يلتق اثنان منها فقط على خيارٍ واحد، ففي حين رشّح تيار المستقبل رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية، ذهب حزب القوات اللبنانية لتبني ترشيح رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، فيما نأى حزب الكتائب بنفسه عن الترشيحين، معتبراً أنّ كليهما يشكّل تنازلاً.
وإذا كان يتراءى للبعض أنّ هذا الخلاف يمكن أن يسوّى بتخلي كلّ من تيار المستقبل والقوات اللبنانية عن مرشحيهما، والذهاب نحو خيار مرشح وسطي يتفقان عليه مع حزب الكتائب، فإنّ الحقيقة أنّ الأمور باتت أعقد من ذلك بكثير، خصوصًا بعد التفاهم المبرم بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، والذي يبدو في جزءٍ كبيرٍ منه على حساب كلّ من تيار المستقبل وحزب الكتائب، ولو نفى القواتيون ذلك.
سجالات غير صحية
تكفي في هذا السياق العودة للسجالات غير الصحية التي نشبت بين قياديين من القوات اللبنانية من جهة وآخرين من تيار المستقبل وحزب الكتائب من جهة ثانية للتأكيد على ذلك، خصوصًا أنّ بعض هذه السجالات تخطت الحدود الأخلاقية المتعارَف عليها عادة بين الخصوم أنفسهم وليس فقط بين الحلفاء، كالسجال الذي نشب بين النائبين فادي كرم ومحمد كبارة على سبيل المثال، من دون نسيان السجال الذي وقع بين رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس كتلة المستقبل فؤاد السنيورة، والذي أظهر أنّ الخلاف بات يدور حتى حول المبادئ.
وأبعد من هذه السجالات، فإنّ انخراط مختلف مكوّنات ما كان يُعرَف سابقًا بقوى الرابع عشر من آذار في بازار المزايدات زاد من مساحة التباعد فيما بينهما. ففي حين يعلن تيار المستقبل جهاراً أنّ الحكومة مثلاً خطٌ أحمر، يستقيل منها حزب الكتائب محاولاً تحقيق مكاسب في الساحة المسيحيّة، علمًا أنّ القوات اللبنانيّة لم تدخلها أصلاً. وفي وقتٍ يتّهم تيار المستقبل حزب الله بتنفيذ انقلاب لتغيير النظام بغطاءٍ عوني تحت مسمّى المؤتمر التأسيسي، يخرج حزب الكتائب بمواقف تتناغم مع هذا المؤتمر، كالدعوة لتغيير النظام، فيما يذهب القواتيون لتحييد عون. وفي المقابل، في حين تصرّ القوات والكتائب على النسبية في قانون الانتخاب، ويذهب بعضهم لحدّ تبني القانون الأرثوذكسي، يصوّره المستقبليون على أنّه قانون فتنة، ويرفضون النسبية بالمطلق.
أما الخطاب الطائفي الذي بات الحاضر الأكبر في قاموس كلّ الأفرقاء، الآذارية منها وغير الآذارية، فقد يكون العائق الأكبر أمام عودة فريق يرفع، ولو بالظاهر، شعارات وطنية. فخطاب الحقوق المسيحية، الذي بات يشمل حتى أزمة النفايات التي تمّ تطييفها، بات الشغل الشاغل لحزبي القوات والكتائب، فيما لم يتردّد تيار المستقبل بركوب الموجة، عبر القلق جهاراً على حقوق الطائفة السنيّة، والخشية على نيّات مضمرة لدى البعض للإنقضاض على صلاحياتها من بوابة تعديل اتّفاق الطائف.
ما الذي يجمعهم؟
إزاء كلّ هذه الخلافات، الظاهر منها والخفي، يُطرَح السؤال، ما الذي يجمع هذه القوى اليوم، حتى يُعاد إحياؤها؟
لعلّ العودة إلى المنطق السياسي الذي يعتمده الفريق الذي وصفه الرئيس السابق أمين الجميل بـ"السيادي" تحمل الإجابة على هذا السؤال، إذ إنّ هناك بالفعل ما لا يزال يجمع هذه القوى، وهو معارضتها لحزب الله، وتحميله مسؤولية كلّ الأزمات التي وصلتها البلاد، وإن اختلفت على التفاصيل والمسؤوليات. فالأحزاب الثلاثة الرئيسية في فريق "14 آذار" تتفق مثلاً على أنّ حزب الله يتحمّل مسؤولية تعطيل الانتخابات الرئاسية ويسعى لتكريس الفراغ الرئاسي، إلا أنّ مرشح الحزب، أي العماد ميشال عون، بريءٌ من هذه التهمة وفق منطق حزب القوات اللبنانية، رغم أنّ عون قادرٌ على تأمين نصاب جلسات انتخاب الرئيس فيما لو أراد.
من هنا، يظهر أنّ الاتفاق بين هذه الأحزاب الثلاثة قد يكون إقليمياً أكثر منه محلياً، باعتبار أنّ هناك وحدة حال في مقاربة قضايا الإقليم، ومنها على سبيل المثال الأزمة السورية. ولكن هنا أيضاً، يمكن رصد بعض التباينات، فالبيئة الحاضنة لتيار المستقبل متهمة من بعض الحلفاء مثلاً بالغلو وصولاً حتى مناصرة بعض الجماعات الإرهابية على غرار جبهة النصرة في بعض الأحيان، كما أنّ مقاربة المرجعية الإقليمية تختلف أيضاً بين هذا المكوّن وذاك، ضمن فريقٍ ارتأى أن يسمّي نفسه يوماً بفريق "لبنان أولاً".
عملية مستحيلة...
في الختام، قد يكون الرئيس السابق أمين الجميّل على حق حين يشخّص الداء، ألا وهو تفكّك وتشرذم قوى 14 آذار، وقد يكون محقاً بالقول أنّ الأوان قد حان لإعادة جمعها، وهو ما يشاركه فيه الكثير ممّن يحنّون لما يصنّفونه "زمناً جميلاً".
ولكن، وبعيداً عن النظريات، فإنّ كلمة حق تُقال أنّ جمع هذه القوى اليوم بات أشبه بجمع الأضداد، وقد يكون أكثر من عملية تعجيزية وشبه مستحيلة، بل مستحيلة بكلّ ما للكلمة من معنى!